سورة الحجر - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحجر)


        


ولما كان إرسالهم للعذاب، قالوا مستثنين من الضمير في {مجرمين} أي قد أجرموا كلهم إجراماً عظيماً {إلا آل لوط} فاستثنوهم من أن يكونوا مجرمين، المستلزم لكونهم ما أرسلوا لتعذيبهم، فكان ذلك محركاً للنفس إلى السؤال عن حالهم، فإنهم ممن وقع الإرسال بسببه، فأجابوا بقولهم: {إنا لمنجوهم} أي تنجية عظيمة بتدريج الأسباب على العادة {أجمعين إلا امرأته}.
فلما استثنوها من أن ينجّوها فكان أمرها محتملاً لأن تعذب ولأن ينجيها الله تعالى بسبب غيرهم، تشوفت النفس للوقوف على ما قضى الله به من ذلك، فقيل بإسناد الفعل إلى أنفسهم لما لهم من الاختصاص بالمقدر سبحانه: {قدرنا} ولما كان فعل التقدير متضمناً للعلم، علقه عن قوله: {إنها} أي امرأته، وأكد لأجل ما أشير إليه هنا من عظيم تشوف الخليل عليه السلام إلى معرفة أمرهم وتشديد سؤاله، في نجاة لوط عليه السلام وجميع آله- كما مضى التصريح به في هود- فطماً له عن سؤال في نجاتها بخلاف ما في النمل، فإن سياقها عار عن ذلك {لمن الغابرين} أي الباقين الذين لا ينجون مع لوط عليه السلام، بل تكون في الهلاك والعبرة؛ والآل- قال الرماني: أهل من يرجعون إلى ولايته، ولهذا يقال: أهل البلد، ولا يقال آل البلد، والتقدير: جعل الشيء على مقدار غيره لتظهر المساواة والمباينة، والغابر: الباقي فيمن يهلك.
فلما تم ما أريد الإخبار عنه من تحاورهم مع إبراهيم عليه السلام، أخبر عن أمرهم مع لوط عليه السلام، فقال: {فلما} بالفاء الدالة على سرعة وصولهم إليه، وكأنه ما اشتد إنكاره لهم إلا بعد الدخول إلى منزله، إما لخوفه عليهم وهم لا يخافون، أو غير ذلك من أحوال لا تشبه أحوال البشر فلذا قال: {جاء آل لوط} أي في منزله {المرسلون} أي لإهلاك قومه {قال إنكم قوم} أي أقوياء {منكرون} لا بد أن يكون عن إتيانكم إلى هذه البلدة شر كبير لأحد من أهل الأرض، وهو معنى {سيء بهم} [العنكبوت: 33] الآية، فقدم حكاية إنكاره إياهم وإخبارهم عن العذاب لمثل ما تقدم في قصة إبراهيم عليه السلام من الزجر عن قولهم {لو ما تأتينا بالملائكة} المحتمل لإرادة جميع الملائكة {إن كنت من الصادقين} تعريفاً لهم بأن بعض الملائكة أتوا من كانا أكمل أهل ذلك الزمان على أجمل صور البشر، مبشرين لهما، ومع ذلك خافهم كل منهما، فكيف لو كان منهم جمع كثير؟ أم كيف لو كانوا على صورهم؟ أم كيف لو كان الرائي لهم غيرهما؟ أم كيف لو كان كافراً {يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجراً محجوراً} [الفرقان: 22] ويجوز أن يكون قوله لهم هذه المقالة إنما كان عند إخبارهم له بأنهم رسل الله، ويكون المعنى حينئذ أنكم لستم على صفة الآتي بالوحي، فقد اشتد على أمركم، لكوني لا أعرفكم مع الاستيحاش منكم، وذلك بعد محاورته لقومه ثم مقارعتهم عنهم، فكان خائفاً عليهم، فلما أخبروه أنهم ملائكة خاف منهم أن يكونوا أتوا بشيء يكرهه، وقد تقدم آنفاً أن الإخبار عما كان في حين من الأحيان لا يضر تقديم بعضه على بعض ولا إسقاط بعض وذكر آخر، ولم يزد هنا الحرف الذي أصله المصدر، وهو أن كما في العنكبوت، لأن استنكاره لهم وإن كان مرتباً على مجيئهم إلا أنه ليس متصلاً بأوله بخلاف المساءة.


ولما كانت حقيقة المنكر ما خرج عن عادة أشكاله، ولم يكن على طريقة أمثاله، أضربوا عن قوله، وكان جوابهم أن {قالوا بل} أي لسنا منكرين لأنا {جئناك} لنفرج عنك {بما} أي بسبب إيقاع ما {كانوا} أي جبلة وطبعاً {فيه يمترون} بما جرت عادتنا أن نأتي بمثله من العذاب الذي كانوا يشكون فيه شكاً عظيماً، يحملون نفوسهم عليه ويكذبون به، والجاهل يوصف بالشك وإن كان مكذباً من جهة ما يعرض له منه، من حيث إنه لا يرجع إلى ثقة فيما هو عليه {وأتيناك بالحق} الفاصل بينك وبينهم، الواقع بهم مطابقاً لإخبارنا؛ والإتيان: الانتقال إلى جهة الشيء، والذهاب: الانتقال عنه {وإنا لصادقون} في الإخبار بما يطابق الواقع.
ولما أخبروه بوقوع العذاب بهم، أمروه بما يكون سبباً فيما أمروا به من إنجائه، فقالوا: {فأسر} فأتو بالفاء لأن ما بعدها مسبب عما قبلها {بأهلك بقطع} أي طائفة {من الليل واتبع} أي كلف نفسك أن تتبع {أدبارهم} لتكون أقربهم إلينا وإلى محل العذاب، لأنك أثبتهم قلباً وأعرفهم بالله، والشر من ورائكم، وقد جرت عادة الكبراء أن يكونوا أدنى جماعتهم إلى الأمر المخوف سماحاً بأنفسهم وتثبيتاً لغيرهم، وعلماً منهم بأن مداناة ما فيه وجل لا يقرب من أجل، وضده لا يغني من قدر، ولا يباعد من ضرر، ولئلا يشتغل قلبك بمن خالفك، وليحتشموك فلا يلتفتوا، أو يتخلف أحد منهم- وغير ذلك من المصالح؛ والدبر: جهة الخلف وهو ضد القبل {ولا يلتفت} أي أصلاً {منكم أحد} إذ لا فائدة فيه لأن الملتفت غير ثابت، لأنه إما غير مستيقن لخبرنا أو متوجع لهم، فمن التفت ناله العذاب، وذلك أيضاً أجد في الهجرة، وأسرع في السير، وأدل على إخراج ما خلفوه من منازلهم وأمتعتهم من قلوبهم، وعلى أنهم لا يرقون لمن غضب الله عليهم مع أنهم ربما رأوا ما لا تطيقه أنفسهم {وامضوا حيث} وتعبيره بالمضارع يشعر بأنه يكون معهم بعض الملائكة عليهم السلام في قوله: {تؤمرون}.
ولما تقرر بهذا أمر إهلاكهم من غير تصريح ولا تعيين لوقت، قال تعالى: {وقضينا} أي بما لنا من العظمة، موحين {إليه} أي خاصة {ذلك الأمر} وأشار إلى تعظيمه بالإشارة إليه بأداة البعد، ثم فسره بقوله: {أن دابر} أي آخر {هؤلاء} أي الحقيرين عند قدرتنا، وأشار بصيغة المفعول إلى عظمته سبحانه وسهولة الأمر عنده فقال تعالى: {مقطوع} حال كونهم {مصبحين} ولا يقطع الدابر حتى يقطع ما دونه، لأن العدو يكون مستقبلاً لعدوه، فهو كناية عن الاستئصال بأن آخرهم وأولهم في الأخذ سواء، لأن الآخذ قادر، لا كما يفعل بعض الناس مع بعض من أنهم يملون في آخر الوقائع فيفوتهم البعض.


فلما تم ما دار بينه وبين الرسل مقدماً لما بيّن، أتبعه البيان عن حال قومه إشارة إلى أن الملائكة إن كانوا بصفات البشر لم يعرفهم الكفرة، وإن كانوا بصفاتهم أو بإظهار شيء من خوارقهم لم تحتمله قواهم، فلا نفع لهم في مكاشفتهم في حالة من الحالات، فسؤالهم الإتيان بهم جهل عظيم، فقال تعالى: {وجاء أهل المدينة} أي التي كان هذا الأمر فيها- قالوا: وهي سدوم- لإرادة عمل الفاحشة بالأضياف {يستبشرون} أي يلوح على بشراتهم السرور، فهم يوجدونه لأنفسهم إيجاد من هو شديد الرغبة في طلبه، فكان حال لوط عليه السلام أن {قال} لهم: {إن هؤلاء} أي الأقرباء مني {ضيفي}.
ولما كان إكرام الضيف إكراماً لمن هو عنده وإهانته إهانته، سبب عن ذلك ما أشار إليه الكلام فقال: {فلا تفضحون} في إصابتهم بفاحشة، وكان ذلك قبل معرفته أنهم ملائكة {واتقوا الله} أي الذي له جميع العظمة {ولا تخزون} أي بإهانة ضيفي، فيكون ذلك عاراً عليّ مدى الدهر، فلم يكفهم ذلك بل {قالوا} بفظاظة، عاطفين على ما تقديره: ألم تعلم أنا لا نترك هذا الأمر لشيء من الأسباب: {أو لم ننهك} أي من قبل هذا {عن العالمين} أن تجير علينا أحداً منهم، فما وصلوا إلى هذا الحد من الوقاحة، ذكر لهم الحريم ليحملهم ذلك على الحياء، لأنه دأب من له أدنى مروءة ولا سيما ذكر الأبكار في سياق يكاد يصرح بمراده، بأن {قال هؤلاء} مشيراً إلى بيته الذي فيه بناته صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن {بناتي إن كنتم} ولا بد {فاعلين} أي قد عزمتم عزماً ماضياً على هذا الفعل، إشارة بأداة الشك إلى أن هذا الفعل مما لا ينبغي أن يفعل، يعني وأنتم عالمون بأني لا أسلم بناتي أبداً، فعلم من ذلك أن وصولكم إلى أضيافي دون هلاكي محال.
ولما ذكر ما ذكر من أمورهم وعظيم فجورهم، وهم قد فرغ من أمرهم وقضي باستئصالهم، كان كل من يعلم ذلك قاضياً بأنهم لا عقول لهم، فأتبع سبحانه ذلك ما يدل عليه بقوله: {لعمرك} أي وحياتك يا كريم الشمائل، وأكد لأن الحال قاض في ذلك الحين استبعاد ردهم، ولتحقيق أن ذلك ضلال منهم صرف وتعنت محض، فقال: {إنهم لفي سكرتهم} أي غوايتهم الجاهلية {يعمهون} أي يتحيرون ولا يبصرون طريق الرشد، فلذلك لا يقبلون قول النصوح، فإن كان المخاطب لوطاً عليه السلام، كان ضمير الغيبة لقومه، وإن كان المخاطب نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وهو الظاهر- كان الضمير لقومه، وكان التقدير أنهم في خبط بعيد عن السنن في طلبهم إتيان الملائكة كما كان قوم لوط عليه السلام يقصدون الالتذاذ بالفاحشة بمن مكن من هلاكهم، فشتان ما بين القصدين! وهيهات لما بين الفعلين! فصار المعنى أن ما قذفوك به أول السورة بهم لابك، لأن من يطلب إتيان الملائكة- مع جواز أن يكون حاله حال قوم لوط عليه السلام عند إتيانهم- هو المجنون؛ والعمر- بالفتح: العمر- بالضم، وهو مدة بقاء الشيء حيّاً، لكنه لا يقال في القسم إلا بالفتح لخفته مع كثرة دور القسم، ولذلك حذفوا الذي تقديره: قسمي، والسكرة: غمور السهو للنفس.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6